Tuesday, December 10, 2019

ليس دفاعا عن الموازنة

ليس دفاعا عن الموازنة
د. يوسف منصور

تواجه موازنة الحكومة لعام 2020 بعض الانتقادات تتلخص في أنها ليست موازنة استثمارية بل استهلاكية، أي أنها تشجع الاستهلاك وليس الاستثمار؛ تزيد من الاقتراض وبذلك المديونية؛ ليس فيها ما هو كافٍ لرفع معدلات النمو بشكل كبير؛ المطالبة باعادة هيكلة أسعار الطاقة.

بدايةً، أصبحت غالبية دول العالم تتبع المدرسة الكينزية أو نظرية جون مينارد كينز على أنها الاساس للسياسات الاقتصادية في مواجهة الازمات حيث اتبعتها حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا في مواجهة الازمة الاقتصادية العالمية، وكتب جريكوري مانكيو استاذ الاقتصاد الشهير "اذا اردت ان تصغي الى عالم اقتصادي واحد لفهم المشاكل التي تواجهه الاقتصاد، فلا شك ان هذا العالم الاقتصادي هو جون كينز".

وتعتمد نظرية كينز على دور الحكومة في تحفيز الطلب الكلي والذي يتكون من نفقات الافراد، نفقات الاستثمار (الاستثمارات) والانفاق الحكومي، وصافي الصادرات (الفرق بين ما يبيعه البلد وما يشتريه من بلدان أخرى). وعلى أن أي زيادة في الطلب تأتي من احد هذه المكونات الاربعة وهي أيضاً مكون الناتج المحلي الاجمالي.

خلال فترة الركود الاقتصادي او الكساد (فترة طويلة من الركود كما هو الحال في الاردن حيث استمر الركود منذ عام 2010 وحتى 2018 حسب الارقام الرسمية)، تقل ثقة المستهلكين فتؤدي الى تقليل الانفاقات وخصوصاً على المشتريات ذات القيمة العالية بالنسبة للدخل، مثل العقارات. يؤدي هذا الانخفاض في الانفاق الى قلة الاستثمار استجابةً لضعف الطلب على المنتجات.

وطبقاً لهذه النظرية يقع عبء تحفيز الناتج الاقتصادي للخروج من الكساد على كاهل الحكومة ويتوجب بهذا تدخل الحكومة بمعدلات النمو والنشاط الاقتصادي او بما يعرف بالدورة الاقتصادية. فتقوم الحكومة بزيادة الانفاق الحكومي او تخفيض الضرائب او الاثنان معاً.

يؤدي تحفيز الطلب الى زيادة معدل النمو في المدى القصير وليس له أثر يذكر على التضخم (ارتفاع الاسعار) إذا كان البلد في حالة ركود او كساد شديد كما هو الحال في الاردن. كما أنه يؤدي الى بعض التضخم إذا كان الاقتصاد في فترة نمو عاديةٍ أو مرتفعةٍ لعدم تمكن الانتاج (العرض) من مجاراة الطلب.  

تتميز المدرسة الكينزية عن باقي المدارس الاقتصادية هو دعوتها الى تقليل عمق وسعة الدورة الاقتصادية حيث تقوم موازنة الحكومة بالعمل بعكس الدورة الاقتصادية فيقترح كينز تشغيل العمالة وان كان على حساب العجز المالي للحكومة وذلك لتحفيز العمالة والمحافظة على استقرار الاجور اثناء فترة الركود الاقتصادي، وخفض معدل الفائدة لتشجيع الاستثمار، وبالتالي تحفيز جانبي الطلب والعرض.

ويعتبر دور الدولة إيجابي وتفاعلي في الاقتصاد هنا، حيث يعاكس توجهات الدورة الاقتصادية: إذا تراجع النشاط الكلي تقوم الدولة بتحفيزه، وإن توسع انكماش انفاق الدولة لحماية المواطنين من نار الغلاء. وتقوم السياسة أيضاً على أن أجور العمالة هامة لتشجيع وتنمية الطلب، لذا يجب أن تنمو الأجور.

أما بالنسبة للعجز الناجم عن التوسع في الانفاق وبالتالي زيادة الاقتراض ومديونية الدولة فان الاجابة عليها سهلة وواضحة: مع ارتفاع وتيرة الطلب الكلي يرتفع معدل النمو الاقتصادي والنشاط الاقتصادي فيرتفع معها دخل الحكومة من الضرائب والرسوم دون الحاجة الى رفع معدلاتها وذلك لازدياد حجم النشاط الكلي بدلا من انكماشه، اي ان الحكومة ستتمكن من سداد ما انفقته.


الواضح في الموازنة للعام 2020 انها لا تحفز الاستهلاك فقط بل الاستثمار أيضاً الذي يستجيب الى معدلات النمو الاقتصادي الناجمة عن الزيادة في الطلب، كما أن توسع الانتاج يؤدي الى ارتفاع دخل الحكومة دون زيادة العبء الضريبي على المواطن. أيضاً، فان التوسع الذي ورد في الموازنة تضمن زيادة الانفاق الرأسمالي (الاستثماري) مما سيحسن من الممكنات الاقتصادية ويؤدي الى مزيد من النمو مستقبلياً. قد لا يكون الارتفاع في النمو كبير جداً فمعدلات نمو 2004-2008 تحتاج الى تدفقات استثمارية كبيرة ولكن سيؤدي ال معدلات نمو تخرج بالاردن من الكساد الذي يعانيه. اما بالنسبة لأسعار الطاقة، فيجب مراجعتها فعلياً لتقليل كلف الانفاق الاستثماري والانتاجي والاستهلاكي وربما سيأتي هذا لاحقاً، وعلى كل حال حين يرتفع دخل المواطن سيستطيع تحمل هذه الاسعار بشكل أفضل مما لو قل دخله نتيجة موازنةٍ انكماشيةٍ وضرائب مرتفعةٍ اضافيةٍ.  

لقد اثبتت السنوات الماضية أضرار الموازنات التي لا تعتمد عل تحفيز الطلب بل تقوم على رفع معدلات الضريبة والرسوم وأسعار الطاقة التي نجم عنها عام بعد عام ايرادات حكومية اقل بكثير من ما هو متوقع نتيجة انكماش الطلب من خلال تخفيض الدخل المتاح للمواطن وهجرة الاستثمار والانتاج معا، وهو نهج قام على اتباع سياسة صندوق النقد الدولي وبرامجه "الاصلاحية".     


No comments:

Post a Comment