من المعروف أن موازنة الحكومة هي استراتيجيتها ومخططها لما ستفعله في العام المقبل لتحفيز الاقتصاد، وهو المنظور الواجب استخدامه في تقييم أي استراتيجية لأي دولة كانت. وفي الأردن يعتبر شهر كانون الأول هو ذلك الوقت الذي نبدأ فيه نقاشات مشروع الموازنة المقترح. السؤال الصعب هو، هل تجلب هذه الموازنة شيئًا جديدًا؟ السؤال مهم جداً وخاصة بالنسبة للحالة الاقتصادية.
فالحال لدينا هو كالآتي: انخفاض النمو الاقتصادي الحقيقي منذ اثني عشر عام وتدنيه أيضاً في عام 2022 حيث يتوقع أن لا يتجاوز 2.7 في المائة؛ ارتفاع معدل البطالة (22.6 في المائة) ومعدل بطالة الشباب (49 في المائة)؛ وسقوط مشاركة الإناث في القوى العاملة الى 12 في المائة وهو الأدنى في العالم؛ و تجاوز الدين العام 112 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
بسبب كل ذلك دعونا نرى ما تجلبه الموازنة لتخفيف حدة الوضع القائم. ولنبدأ بتحليل موجز لبعض افتراضات الموازنة. من المتوقع أن يكون معدل النمو الاقتصادي الحقيقي حوالي 2.7٪، أي أنه لن يكون هناك تغيير في معدل النمو. كما سيكون معدل التضخم 3.8٪ (أقل من المتوسط الحالي البالغ 4.1٪). وبإضافة المعدلين معاً، تتوقع الموازنة معدل نمو اقتصادي اسمي يبلغ 6.5 في المائة (نمو حقيقي +تضخم)، وهو أمر جيد للحكومة لأنه يساعد على زيادة إيراداتها، خاصة من الضرائب غير المباشرة (تلك الضرائب غير المفروضة على الدخل مباشرة كالجمارك والمبيعات والجامعات والتلفزيون وما إلى ذلك) والرسوم التي تفرضها.
وتتوقع الموازنة (دون مبرر واضح) أن تنمو الإيرادات الحكومية العامة بنحو 10 في المائة مع ارتفاع الإيرادات الضريبية بمقدار 696 مليون دينار، والإيرادات غير الضريبية 133 مليون دينار. وستتحقق هذه الزيادة دون فرض ضرائب أو رسوم جديدة كما وعدت وزارة المالية مما يُعني أنه سيكون هناك تركيز أكبر على أنشطة تحصيل الضرائب ورفع الرسوم التي تفرضها الحكومة على خدماتها، والتي يمكن للحكومة رفعها دون موافقة البرلمان.
وسترتفع الإيرادات غير الضريبية (وتتشكل بشكل أساسي من الرسوم والتي ستكون حوالي 2.14 مليار دينار أردني) بنسبة 6.7 في المائة. وستظل تشكل ثلث الإيرادات الضريبية، أو حوالي 22 في المائة من الإيرادات المحلية. إن حقيقة اعتماد الحكومة كثيرًا على زيادة الرسوم ليست ممارسة فضلى لأن هذا يعزز غموض السياسة المالية ويجعل بيئة الاستثمار والإنتاج والاستهلاك أقل شفافيةً ويضعف قدرة المستثمر والمنتج والمستهلك على التخطيط.
سترتفع النفقات الجارية بمقدار 767 مليون دينار أردني أو بنسبة 8.5٪ عن مستواها في عام 2022، أي أنه لن يكون هناك تقشفاً خاصةً وأن 500 مليون دينار منها ستكون زيادات لرواتب وتقاعد الحكومة ووحداتها المستقلة. وسيخصص من النفقات الجارية حوالي 3 مليارات دينار للأجهزة العسكرية وأجهزة الأمن العام، وبالتالي فإن الإنفاق على الجيش والأمن سيكون أعلى من الإنفاق على التعليم والصحة والنقل بنحو 8٪، وقد ارتفعت فئة الإنفاق هذه بمقدار 252 مليون دينار مقارنة بمستواها في عام 2022.
من اللافت للنظر أن الإنفاق تحت بند "دعم الجامعات الحكومية" سيظل في العام المقبل 70 مليون دينار، وهو نفس الإنفاق في السنوات المقبلة، وهو أقل مما كان عليه في عام 2021 حيث كان الدعم 74 مليون دينار. مما يعني ان الحكومة تنوي تقليل الانفاق على الدراسات العليا بالقيمة المطلقة وبالرغم من زيادة عدد الطلاب عاما بعد عام. أي وبعبارة أخرى، بينما نشكو عمومًا من تدهور جودة النظام التعليمي، فإن الحكومة لن تفعل شيئًا حيال ذلك. علاوة على ذلك، لماذا تستخدم الموازنة هنا كلمة "دعم"؟ إنها جامعات عامة حكومية، يجب أن تأتي ميزانياتها من الدولة وليس من هياكل ورسوم التعليم المرتفعة والمشوهة مثل نظام التعليم الموازي الذي يتيح دخول الجامعة ليس على أساس الجدارة ولكن على القدرة المالية لذوي الطالب فنضحي من أجل حفنة من الدنانير بمدخلات ومخرجات التعليم العالي. على كلٍ، إذا كانت الحكومة ترغب في إزالة هذا المستوى التافه من الإنفاق، فقد يكون الوقت قد حان لخصخصة الجامعات والتخلص من التعليم العام العالي - الأمر الذي سيكون اثره كارثيا.
هناك جوهرة أخرى مخفية في الموازنة يجب أن تلفت انتباه المرء وهي بند الإنفاق الرأسمالي، وهو بند ضروري لتنمية الأردن لأنه استثمار في مستقبل البلاد ومفتاح لإخراجها من ضائقة الاقتصاد الحالية. حيث تفيد الموازنة أن النفقات الرأسمالية في عام 2023 ستبلغ 1592 مليون دينار، وهي أعلى مما كان مخصصاً في عام 2022 بمقدار 100 مليون دينار.
لكن ولسوء الحظ، تُظهر مراجعة سريعة للفئات الفرعية تحت هذا البند قصة مختلفة: سيتم إنفاق معظم النفقات الرأسمالية (83 بالمائة) على المشاريع الجارية والمستمرة، أي أن المشاريع الجديدة (إن وجدت) سيكون الانفاق عليها 262 مليون دينار أردني فقط (17٪ من النفقات الرأسمالية) في عام 2023. وبالتالي، فإن النفقات الرأسمالية الجديدة ستكون حوالي 2٪ من إجمالي الإنفاق الحكومي الكلي. لاحظ أن ما يسمى بالنفقات الرأسمالية، كما أشارت إلى ذلك الأجندة الوطنية الأردنية (المنسية) عام 2005، هي 75٪ من النفقات الجارية (رواتب وما في حكمها). علاوة على ذلك، ليست هذه نهاية القصة: حيث يسمح قانون الموازنة لوزارة المالية بتحويل المخصصات من النفقات الرأسمالية إلى النفقات الجارية، لكنه لا يمكنها او غيرها من تحويل المخصصات من النفقات الجارية إلى النفقات الرأسمالية، ليمكن هذا التحيز الواضح وزراء المالية في السنوات الماضية من تحويل الموارد من النفقات الرأسمالية بعد إقرار الموازنة الى النفقات الجارية وكما يراه الوزير. أيضاً، كل ما على الوزارة فعله ان تقول بأنه لا يوجد دراسات لمشاريع جديدة وبالتالي تحول الأموال الى النفقات الجارية. وبالنتيجة، رغم ضآلة هذا المبلغ البائس فإن إنفاقه سيكون غير مؤكد.
سيرتفع مستوى الدين مع بقاء النمو خامداً وارتفاع أسعار الفائدة كما تعد بها الموازنة. سبب ارتفاع الدين هو أنه وفقًا لهذه الموازنة، ستستمر الحكومة في فعل ما فعله الآخرون في الماضي، على أمل أن يؤدي نفس التفكير والأساليب إلى نتائج مختلفة، وهو بالطبع ما لن يحدث !!!
بالإضافة إلى ما سبق؛ يتذكر المرء أنه كان هنالك وعد في الأسبوع الماضي بتخصيص 355 مليون دينار أردني لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي التي تم إطلاقها مؤخرًا. من الصعب معرفة كيف ستخصص الحكومة الأموال للركائز الثمانية للرؤية.
لا تعتبر هذه الموازنة بأنها جديدة او أضافت شيء جديد، جُل ما فعلته أنها دمجت موازنات الحكومة المركزية وموازنات الهيئات الحكومية المستقلة في موازنة واحدة، وهو طلب طال انتظاره ليس فقط محليًا ولكن أيضًا من قبل المنظمات المانحة.
وبالمحصلة يمكن الجزم بأن هذه الموازنة ليست موازنة تنموية
No comments:
Post a Comment