Sunday, August 29, 2021

ضانا وحفنة النحاس 29/08/2021

من الواضح أن الحكومة ترغب وتنوي السماح بتعدين النحاس في محمية ضانا الطبيعية، الأمر الذي يواجه معارضة من قبل الأفراد والمؤسسات في الأردن وخاصة أولئك المهتمون بالبيئة والمخضرمون الذين عاصروا الجهود الجبارة التي بُذلت على مدى سنين عدة لإعادة إحياء قرية ضانا.

وربما لكبح جماح المعارضة قامت الحكومة بنشر أرقام (قد تكون مبالغ فيها برأيي) حول الاحتياطيات المتوقعة والتدفقات النقدية المحتملة دون توضيح لتكاليف استخراج النحاس المتوقع في وقت شحت فيه موارد الدولة وعانى الاقتصاد ما عاناه من تراجع في النمو وارتفاعات غير مسبوقة في نسب البطالة والفقر في العهود الثلاثة الماضية.

الواقع أن ضانا تستحق العناء والحوار الوطني المحنك، وليس القائم فقط على حجم المخزون من النحاس. تبلغ مساحة "محمية ضانا للمحيط الحيوي" حوالي 300 كيلومتر مربع  داخل محافظة الطفيلة، إحدى أقل المحافظات حظاً في الأردن ويبلغ عدد السكان قرب المحمية حوالي 33.4 ألف نسمة يعملون في المناطق الشرقية والشمالية حول المحمية في الزراعة والرعي ويعتمدون بشكل أساسي على الوظائف الحكومية ووظائف مصانع الإسمنت والفوسفات والعمل في محمية ضانا.

يتميز المحيط الحيوي لمحمية ضانا بنوعية فريدة وأهمية حيوية على مستوى الأردن والعالم حيث يَعبر أربع مناطق جغرافية حيوية (البحر الأبيض المتوسط​​، الإيراني- الطوراني، الصحراوي العربي، والسوداني). وتعتبر محمية ضانا موطنًا لـ 833 نوع من النباتات (ثلث أنواع النباتات في الأردن)، و215 نوع من الطيور (50٪ من جميع أنواع الطيور في الأردن) وسبعة أنواع نباتية من ثلاثة عشر نوع من النباتات الموجودة في الأردن، و38 نوع من الثدييات (50٪ من الثدييات في الأردن). كما أن ثلاثة من الأنواع النباتية التي تعيش في محمية ضانا فريدة من نوعها لا يمكن العثور عليها إلا في هذه المحمية. وتعتبر المحمية موطناً لأنواع متعددة من الثدييات الآخذة في الانقراض. ولقد تلقت الجمعية الملكية لحماية الطبيعة في العام 1994 دعماً من "صندوق البيئة العالمي" للحفاظ على التنوع البيولوجي الفريد في محمية ضانا، فتم وضع أول خطة لإدارة المناطق المحمية في الأردن وجعلوا من محمية ضانا نموذجاً شاملاً للحفاظ المتكامل على البيئة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في الأردن. أيضا، وضعت اليونسكو محمية ضانا على اللائحة الواصية لمواقع الإرث العالمي.

لذا، من الطبيعي أن يكون لدى البعض، ومنهم الكاتب، تحفظات على صدور قرار من الحكومة بتحويل جزء منها يصل الى الثلث الى منطقة قابلة لنشاطات الصناعة الاستخراجية - أي تحويلها الى منجم نحاس. ومن ناحية أخرى، فإن أحد أسباب وجود الرغبة لدى البعض في تعدين النحاس الآن في محمية ضانا هو أن السعر العالمي للنحاس يبلغ حاليًا 6646 دينار أردني للطن، وهو أعلى مستوى على الإطلاق تقريبًا حيث ارتفع سعر النحاس بنسبة 25٪ للطن على سعره في العام 2010، كما أنه خمسة أضعاف ما كان عليه في مطلع القرن. ومن الجدير بالذكر أن تكلفة تعدين النحاس ارتفعت لتصل إلى 4277 دينار أردني للطن أو 65٪ من السعر الحالي، وأن سبب ارتفاع الأسعار هو رغبة العديد من الدول في التحول الى الاقتصاد الأخضر (ومن ضمنه تشجيع مشاريع مثل ضانا) بعد أزمة الكورونا وإعادة النشاط والحيوية الى اقتصاداتها، ومن ناحية أخرى تواجه الدول المعدنة للنحاس مثل شيلي وبيرو تيارا جامحا يطالب فيه السياسيون برفع رسوم التعدين وجعلها نسب مئوية وربطها بشكل تصاعدي مع أسعار النحاس بدلا من نسبة من الأرباح. ومع ارتفاع الطلب على الطاقة يتوقع أيضا ارتفاع كلفة الطاقة ولذلك فمن الذكاء بمكان الأخذ بعين الاعتبار بأن تكاليف الإنتاج سترتفع أيضا، وخاصة بالنسبة لدولة كالأردن ترتفع فيها كلفة الطاقة. ومن الضروري أن يلاحظ صاحب القرار أن أسعار النحاس تتذبذب وكذلك تكلفته لكي لا يقع الأردن في مطبات شبيهة بعقود بيع الكهرباء، وأجور التعدين، وغيرها.

تتضاءل أهمية حقيقة وجود الاحتياطيات التجارية من النحاس عند مقارنتها بالتعقيدات المحيطة بمثل هذا المشروع. ففي ظل فترة 20 عامًا من التنقيب، قد يعود السعر إلى مستوياته المنخفضة السابقة مما سيجعله غير مجدي اقتصاديا بعد خراب ضانا وفقدانها وفقدان كنوزها الطبيعية والثقافية الى الأبد. قد يتم هيكلة حصة الحكومة من دخل النحاس بحيث تتضخم لاحقًا بدلا من السنوات الأولى، مما يقلل من قيمة التدفقات الحالية فأن يعدك أحدهم بمائة دينار بعد 20 عام يساوي أن يعطيك أحدهم الآن 20 دينار؛ وقد ترتفع التكاليف بشكل كبير أيضا مما يجعل العائد مستحيلا ويتوقف الإنتاج كليا، فنفقد الدخل ونفقد ضانا--لاحظ أن قصة نحاس ضانا قديمة جدا ولم يكن أي مستثمر مهتم بها حين كان سعر النحاس منخفضا. وقد تتلوث موارد المياه حيث يعتبر تعدين النحاس من الصناعات القذرة، وتعتبر المياه أول ضحية لهذه الصناعة، ليصبح بلد فقير بالمياه كالأردن أكثر فقرًا مع تدمير البيئة في المحمية تماماً لتنتقل الخسارة من جيل لآخر ويذري التفكير الآني كل الأعمال الجميلة الحذقة التي تم القيام بها على مر سنين فتضيع ضانا في وعاء من النحاس.

علاوة على ذلك، ينبغي تقييم قضايا مثل الحوكمة والروابط مع بقية الاقتصاد وقطاعاته لضمان انتشار الفوائد واستدامتها. كما يجب أن تكون هناك مقارنة بين الأرباح (المالية والاقتصادية) من تدفقات الدخل من تعدين النحاس وتلك من وجود محمية ضانا حين تكون مدعمة لتعمل بكامل طاقتها. وكما هو الحال في العديد من البلدان النامية الأخرى، لا ينبغي على المرء أن يتسرع في مشروع تعدين دون تقييم الآثار الاجتماعية والاقتصادية والأضرار البيئية، لا سيما بالنظر إلى أنه سيؤثر بشكل مباشر على المحمية. يجب معالجة السياسات والبرامج التي تعزز القيمة المضافة لتعدين النحاس بالإضافة إلى أنشطة التعدين الأخرى على مستوى المجتمع المحلي والإقليمي والوطني. يجب أن يكون تطوير القدرات البشرية والمؤسسية في المجتمعات المضيفة للاستفادة من ذلك من بين أولويات عملية التفاوض.

لذا، يجب أن تتم عملية التفاوض من قبل محترفين لديهم خبرة هائلة في هذا الموضوع. و يجب خصم أي مدفوعات مستقبلية إلى الوقت الحاضر لتحديد قيمتها الحالية. وأن تخضع جميع العقود لموافقة مجلس النواب. بعبارة أخرى، لكي يساهم هذا المشروع في زيادة الإيرادات الضريبية وعائدات التصدير وفرص العمل وتطوير البنية التحتية ونقل التكنولوجيا، فإن عملية شفافة وتنافسية ضرورية ولكنها ليست كافية، تتطلب مثل هذه العملية وجود مستشار فني محايد. فلماذا لا تُطلب المساعدة الفنية من هيئة محايدة مثل البنك الدولي، والذي قدم المساعدة الفنية في 24 دولة لـ 41 قطاع تعدين منذ عام 1988.

إن تلقي المشورة والنصيحة اللازمة نظرًا لقدرات القطاع العام الحالية والتهديد الذي يواجه محمية ضانا للمحيط الحيوي أمر بالغ الأهمية في الوقت الحالي. دعونا لا نتسرع هذه المرة، فالحلول السهلة ليست بالضرورة الحلول الصحيحة.

4 comments:

  1. شخصيا بالنسبة لي هذا اول مقال موضوعي يمكن لأي شخص مهتم معلومات يمكن لها أن تشكل بداية طرف الخيط لهذا الشأن المهم، ولعله من الأهمية بمكان أن يتم تقييم الكلف الفعلية لإنتاج مادة النحاس وبنفس الوقت عمل دراسة تقدير السعر المستقبلي لمادة النحاس ضمن عدة سيناريوهات تميز ما بين حالات بقاء السعر على توجهه الحالي أو ارتفاعه أو انخفاض السعر مستقبلا ولعل من المفيد تقييم الفرص الاستثمارية التي قد تكون مصاحبة للاستثمار مع دراسة سوقية محكمة تمكن صاحب القرار من تمييز المصالح الاقتصادية. على انه وبهدف تقدير قيمة الفرصة البديلة فعلا اعتقد انه يتطلب من الإخوان الذين يعتقدون بأنه يفضل صرف النظر عن موضوع استخراج النحاس لغايات منها بيئية أن يقدموا مشاريع بديله يمكن أن يكون لها أثر اقتصادي قد يقارب عمليات الاستخراج ، وحتى ولو كان أقل، فلبرما لاسباب بيئية يمكن قبول مشاريع أقل جدوى من الاستخراج للنحاس لغايات المحافظة على البيئة والاهم أن يكون هناك دراسات علمية قائمة على معلومات حقيقية وليست تقييمات شخصية لاعتبارات معنوية فقط فصاحب المعدة الخاوية لا يغني وإنما يبحث عن قوت يومه الحلال ، مع كل الشكر لمعالي الدكتور على هذه الطروحات العقلانية القابلة للتطوير والنقاش

    ReplyDelete
    Replies
    1. المعلومات التي تم توفيرها للحكومة ليست محايدة،

      Delete
  2. أبدعت في الطرح الموضوعي ولعل صانع القرار يعيد الحسابات قبل ان نفقد ضلنا كمحمية محيط حيوي ونكتشف ان تعدين النحاس مشروع لم يؤت أكله!!! انا من جماعة البيئة واتحدث من ناحية بيئية وعاطفية لمحبتي لهذا الموقع الفائق الجمال من حيث الطبيعة والسكينة والمجتمع الطيب الذي يقطن فيها. اتمنى ان لا يأتي يوم أرى به الجرافات والحفارات والغبار والأتربة في ضانا او جزء من ضانا لانه ما في شيء اسمه جزء، هذا الجزء سيدمر الكل!

    ReplyDelete
    Replies
    1. أتمنى أيضا أن لا نفقد ضانا، اشكرك على التعليق.

      Delete