أعتذر مقدمًا عن استخدام كلمة "أنا" في هذا المقال؛ فقد ناديت منذ عقود بأن الحكومة يجب أن تركز على الابتكار وتستثمر فيه، دون أن تجد الدعوات والمبررات آذاناً صاغية رغم أن الوصفة بسيطة: الاستثمار في الإبتكار يؤدي إلى زيادة إنتاجية الموارد كالعمالة ورأس المال والريادية، ومع ارتفاع الإنتاجية يزداد دخل الجميع، بما في ذلك الدولة. واليوم، وفي محاولة أخرى لتوجيه الأنظار الى هذه الوصفة السهلة (الممتنعة على الحكومات كما يبدو)، أشرح مرة ثانية أهمية وضرورة الابتكار.
لنبدأ بمثال رقمي بسيط:
تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حالياً حوالي 115% (أي تبلغ قيمته
39.4 مليار دينار ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي 34.3 مليار دينار وهو دخل الأردن
في عام واحد)، تتراوح نسبة الفائدة على الدين العام بين 2% و 7.5%، حسب منشورات
وزارة المالية، ولإجراء عملية حسابية بسيطة، دعونا نفترض أن سعر الفائدة الذي
تلتزم الحكومة بدفعه هو 4%، وهي فائدة أقل بقليل من متوسط الفائدتين.
والآن لنحسب مقدار
الفائدة التي يتعين على الحكومة دفعها في نهاية العام كنسبة مئوية من الناتج
المحلي الإجمالي، فهي لن تكون 4% لأن الدين تجاوز الناتج المحلي الإجمالي. الفائدة
الواجب دفعها هي 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي حاصل ضرب 4% في 115% (لأن
الفائدة على كامل مبلغ الدين وليس على الناتج المحلي الإجمالي). وبالتالي، يتعين
على الحكومة توفير 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي (أو 1.576 مليار دينار) لسداد
فوائد الدين.
ولكن ما هو دخل الحكومة
من الاقتصاد المحلي؟ يبلغ دخل الحكومة حوالي 29% (10 مليار دينار أردني) من الناتج
المحلي الإجمالي، مما يعني أن مقابل كل دينار ينفق في الاقتصاد المحلي تحصل
الحكومة على ضرائب ورسوم قدرها 29 قرشاً، وعلى هذا فإذا نما الاقتصاد بنسبة 6%،
فإن الدخل الحكومي سوف يتنامى بنسبة 30% من هذا النمو، وهو ما يعادل 1.8% من
الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة لا تقترب بأي حال من نسبة 4.6% من الناتج
اللازمة لدفع الفائدة، وبالنتيجة لابد أن ينمو الاقتصاد بنسبة 15% حتى تتمكن
الحكومة من دفع الفائدة البالغة 4.6% على ديونها القائمة، وهو أمر غير مرجّح بل
مستحيل في ظل السياسات الاقتصادية القائمة وأسلوب العمل الحالي، بما أن الأردن لن
يحقق معدل نمو بنسبة 15% هذا العام، فإن أفضل ما يمكنه فعله هو الاقتراض مجددا
لسداد الفائدة على الدين.
وبعبارة أخرى، ستحصل
الحكومة على المزيد من الديون (هذه المرة من صندوق النقد الدولي، وبالتالي سيدخل
الاقتصاد برنامج "إصلاح" جديد) لتسوية بعض فوائد الديون القديمة، لماذا؟
لأن الحكومة لن تتمكن من تحقيق معدلات النمو المرجوة للوفاء بالتزامات الديون
القائمة.
ونسأل مرة أخرى: لماذا؟
لأن الأموال المقترضة تذهب لدفع الرواتب ومعاشات التقاعد وخدمة الديون، لاحظ أن
بعض الأموال التي تنفق على سداد الدين العام ستتسرب الى خارج الاقتصاد المحلي مما
يعني أن الاقتصاد لن يستفيد منها بشيء بل سيتقلص بقيمة ما يخرج منها.
أيضا، بما أن باقي الأموال
المستدانة تذهب لدفع الرواتب ومعاشات التقاعد، فإن الاقتصاد سيستمر بالنمو
الاستهلاكي البطيء بينما يعاني الاقتصاد الحقيقي (الصناعة) من هجرة العقول، ارتفاع
أسعار الطاقة، شح الدعم، غلاء نظام النقل، وتدني التعقيد والمحتوى العلمي في
المنتجات بسبب تدني البحوث والدراسات التي تقود الى الابتكار وتجعل المنتج أعلى
قيمة وتنافسية.
لا بد أن يذهب جزء من
القروض لرفع مستوى الإنتاج في الأردن والانفاق على الإبداع وتشجيع البحث والتطوير
لكي ينمو دخل الجميع وتتراجع نسبة الدين العام الى الناتج المحلي. بمجرد أن يرتفع
دخل المواطن العادي، سيزداد أيضاً دخل الحكومة من الإيرادات المحلية، وهو ما من
شأنه أن يمكّن الحكومة من تسوية الديون، ويرفع من وتيرة اعتماد الأردن على الذات.
هذه هي الصيغة التي يجب على صناع القرار فهمها تماما والعمل بها، وإلا فإن
الحكومات المتعاقبة ستستمر بالتذرع بالأحداث الإقليمية والعالمية لتفنيد معدلات
النمو الهزيلة التي يعاني منها الاقتصاد الأردني منذ 2010.
لم تخرج السياسة الحالية
عن النموذج المعتاد (اقترض لتنفق على الرواتب والتقاعد وخدمة الدين) مما يذكر
بـمقولة "إن من الجنون أن يفعل المرء ذات الشيء مرارًا وتكرارًا ويتوقع نتائج
مختلفة.
نشرت في موقع عمون
No comments:
Post a Comment