من الواضح أن الرفض الشعبي واسع النطاق للتعديلات الأخيرة على قانون الجرائم الالكترونية مبرر ومشروع، والأفضل التراجع عن هذه التعديلات كليا لأن من الواضح أنها تهدف لتقليص مساحات الحرية لدى الأفراد والمؤسسات.
تحذّر كتابات ونصائح الحكماء من عواقب تقليص الحريات. فالتاريخ
وأسفاره التي ينهل ويتعلم منه ومنها كل ذو بصيرة يروي العديد من القصص التي ينبغي
أن توجّه فكر وإجراءات كل مسؤول عن مستقبل الاقتصاد الأردني.
لقد وصف أمارتيا سين، الحائز على جائزة نوبل واقتصادي
التنمية المشهور عالميًا، "التنمية" بأنها "حرية" ، ومن هنا
جاء كتابه الرائع، "التنمية كحرية"، حيث جادل فيه بأن الحرية ليست فقط
الهدف الرئيسي للتنمية بل الوسيلة الرئيسية اليها. ومن بين تأكيدات سين الأساسية
أن الحرية السياسية والشفافية مترابطتان بشكل كبير. ولضمان الشفافية، التي هي أفضل
علاج للفساد والريعية، يجب أن تكون هناك حرية للصحافة بكافة أشكالها.
ولكي لا يقال أن هذا كلام تنظير وفلسفة، دعونا نزور
قصة تاريخية حقيقية من الكتاب الهام "لماذا تفشل الأمم"، بقلم دارون أشيموغلو
وجيمس روبنسون حول طباعة الكتب. قدم يوهانس جوتنبرج للعالم في عام 1445، مطبعة للكتب
في مدينة مينز بألمانيا لتصبح طباعة الكتب من خلال الآلات (بدلا من الممارسة
السابقة وهي الكتابة باليد) وبالتالي انخفضت تكلفة الطباعة بنسبة 90٪، وأصبح
التعلم أكثر سهولة وتحسنت إمكانية الوصول الى العلم والآداب تحسنا كبيرا. وفي غضون
15 سنة (عام 1460) تم إنشاء مطبعة أخرى في مدينة ستراسبورغ بفرنسا، وتأسست بعدها مباشرة
مطابع في روما والبندقية. وفي عام 1476، تم إنشاء مطبعة في لندن تلتها مطبعة أخرى
في أكسفورد عام 1478. وبالنتيجة انتشرت المطابع في جميع أنحاء أوروبا في غضون
ثلاثة عقود، وبدأت أوروبا في القراءة والتطور والتعلم لتصبح دولها بعد ذلك دولا
متقدمة يسودها الرخاء.
وماذا عن الشرق؟ في عام 1485، منع السلطان العثماني
بايزيد الثاني المسلمين الذين كانوا تحت
حكمه من الطباعة باللغة العربية، وأكد السلطان سليم الأول الحظر في عام 1515. وفي
عام 1727، أي بعد ما يقارب ثلاثة قرون من اختراع المطبعة وانتشارها في الغرب، منح
السلطان أحمد الثالث إذنًا بممارسة الطباعة لشخص واحد (إبراهيم موترفريكا) شريطة
أن يقرأ الكتب المطبوعة ثلاثة من كبار قضاة الدولة يشرف عليهم وعلى العملية برمتها
قاض رابع بحجة التأكد من عدم وجود أخطاء في المطبوعات. وكما هو متوقع، طُبع عدد
قليل من الكتب في ظل هذه الرقابة الخانقة، حيث تم طباعة 17 كتابًا فقط في ظل الحكم
العثماني خلال 1729- 1743.
أما بالنسبة للدول التي كانت تحت الحكم العثماني ومنها
العالم العربي. للأسف، أصبحت المنطقة بأكملها متأخرة بثلاثة قرون ونصف عن بقية
العالم، حيث لم يتم إدخال الطباعة إلا في مصر عام 1798 عندما ترك جيش نابليون
بونابرت المنسحب خلفه مطبعة لتصبح من خلالها مصر رائدة المنطقة من حيث المنتجات
الثقافية والعلمية.
وهنالك قصص أكثر حداثة كقصة الدولة العربية التي حظرت اقتناء
او استخدام جهاز الفاكس حتى عام 1999. وقصة دولة أخرى في المنطقة منعت مواطنيها من
الحصول على جوازات سفر حتى الستينيات لكي لا يتعرفوا على كيف يعيش ويُحكم الناس في
العالم الخارجي.
المغزى من سرد هذه القصص، إن لم يكن واضحًا للآن، هو
أن من أكثر التدبيرات أو الإجراءات الحكومية كسلاً (تخفف الجهد على البيروقراطي وتريحه
بينما تضر بالأمة وتطورها) هو حظر النشاط بدلاً من تنظيمه بشكل صحيح ومفيد للأمة.
فأي دولة تدعي أنها تسعى إلى الحداثة والتنمية لا تقبل أن تكون تشريعاتها حافلة بالتهديدات
والعقوبات المشددة والغرامات المبالغ فيها وأوصاف غامضة للجرائم المحتملة والنية
الواضحة للداني والقاصي بتقليص الحريات.
أليس من الأجدى للأردن أن يرفض هذه المسوّدة البائسة لتعديلات
قانون الجرائم الالكترونية وأن نركّز بدلا من ذلك على تنفيذ بنود رؤية التحديث
الاقتصادي وتحقيق معاييرها (ومن بينها إيجاد 100,000 وظيفة هذا العام أو منذ عام
من إطلاق الرؤية)؟؟؟؟
No comments:
Post a Comment