خضعت مسألة التعليم والإنفاق
عليه للكثير من الحوار بين الاقتصاديين، فهل نعتبر التعليم سلعة عامة ام سلعة
خاصة؟ فالسلعة العامة لها خاصيتين هامتين وهو ان استهلاك شخص ما لا يقلل من جودة
استهلاك أخر لها، كما أن استهلاك أحد ما لها لا يعني استبعاد الاخرين من
استهلاكها، تماما كخدمة الأمن الوطني التي يقوم بها الجيش، فهو يحمي كل من في
الوطن دون تمييز أو إقصاء.
حسب هذا التعريف لا يعتبر التعليم
سلعة عامة بل هو سلعة خاصة ينتج عنها منافع خاصة لمتلقيها. وهو ما يدعيه أتباع مدرسة شيكاغو التي يرتكز
عليها فكر صندوق التقد والبنك الدولي. ولكن من ناحية أخرى فان التعليم يؤدي الى
منافع عامة وليست خاصة فقط، فقوة العمل الماهرة المتعلمة ضرورية بل هي ركيزة
أساسية وداعم لا يستغنى عنه في بناء وانتاج اقتصاد يقوم على المعرفة ويقود الى
ثراء الدولة، وبالتالي الحكومة من خلال ما تفرضه من ضرائب ورسوم وبالتالي يُمكّنها
من تقديم خدمات عامة أفضل. والتعليم هو سلّم الفقراء للخروج من مصيدة الفقر، كما
أن رفع سوية تفكير الفرد وقدراته على الانتاج يؤدي الى تحسين أوضاع الآخرين وليس
وضعه هو فقط. ولقد ثبت وعلى مر قرون طويلة بأن الدول التي لا تستثمر في التعليم او
توليه الاهمية الكافية هي الدول الخاسرة والعكس صحيح.
إذا، بغض النظر عما يعتقده
البعض بأن التعليم سلعة خاصة يجب أن تتوفر لمن يستطيع أن يدفع تكلفتها، فإن
التعليم مسؤولية وطنية وحكومية والاداة الاهم في رفع سوية التنمية في الوطن.
وبالنسبة للأردن، هذا البلد
الذي كان رائدا في المنطقة من حيث مستويات ونوعية التعليم فيه، نجد أننا وقبل 25 عاما
وبالتحديد في عام 1996 كانت نسبة الإنفاق العام (الحكومي) على التعليم تصل الى
7.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن، وبعد ربع قرن، ورغم ارتفاع أعداد الطلبة
بحوالي 70% إلا أن الإنفاق تراجع ليصبح 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وإذا نظرنا الى الموازنة
العامة للعام 2023، نجد انه تم تخصيص حوالي ثلاثة مليار دينار من النفقات الجارية للإنفاق
على الأجهزة الأمنية والأمن العام وهو مبلغ يفوق بكثير مستوى الانفاق على التعليم
والصحة والنقل معا بنحو 8%، كما ان الإنفاق تحت بند دعم الجامعات الحكومية بلغ 70
مليون دينار وهو أقل مما كان عليه عام 2021 حين كان الدعم 74 مليون دينارـ مما يُعني
تقليل الإنفاق على التعليم بالقيمة المطلقة بالرغم من تزايد أعداد الطلبة المطرد.
ربما كان السبب في تراجع
الإنفاق هو اتباع برامج الإصلاح التقشفية التي يقدمها صندوق النقد الدولي للأردن
وغيره من الدول. ولكنا يجب ان نتفق تماماً مع فكرة أن لا تمس اي إجراءات تقشفية
رواتب المعلمين سواء أولئك في وزارة التربية والتعليم أو في التعليم العالي، فالأولى
التوجه بدلاً من ذلك الى ترشيد الإنفاق بشكل عام في الحكومة وإعادة التوجيه نحو
رفع رواتب المعلمين ورفع كفاءاتهم من خلال برامج التدريب والتعلم المتطورة، وتحسين
المدارس وجعلها مدارس تجميعية كبيرة بملاعب ومختبرات وأنشطة تحفز الطلبة على
التفكير التحليلي الناقد والعمل كفريق والتواصل مع الآخرين. لا بد من تحسين
التعليم العام في الاردن بحيث لا يكون هناك فارق كبير بين التدريس في المدارس
العامة والخاصة.
على الأردن العمل على تحسين النظام
المدرسي بأكمله. ففي الوقت الحالي يتسع حجم الفجوة بين المدارس الخاصة والعامة، مما
يعني أن الفقراء لن يخرجوا من مصيدة الفقر الموروثة عن آبائهم وأمهاتهم، بينما يصبح
أبناء الأثرياء أكثر ثراءً. ليؤدي الانقسام المتزايد بين تعليم أبناء الأغنياء والفقراء
إلى تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية تعاكس مسار التنمية في الأردن.
الوضع الحالي لا يقتصر على الأردن،
فقد تراجعت البلدان النامية في جميع أنحاء العالم عن الاقتصادات المتقدمة في التنقل
التعليمي بين الأجيال (والذي يؤدي أيضًا إلى انتقال الدخل بين الأجيال)، بينما أدركت
الاقتصاديات المتقدمة أنه ليس لدى كل الآباء ثروات وممكّنات ينقلونها إلى أطفالهم،
وبالتالي فقد قامت الحكومات بملء هذه الفجوة بين الفقراء والأغنياء من خلال أنظمة تعليم
تمكينية عامة ومتاحة للجميع.
إن البلدان التي لا تلتفت إلى
أهمية هذا الامر وتتعامل معه تواجه نتيجة مؤلمة وهي أن يزداد فيها الفقر والتخلف
عمقاً وانتشاراً. ولقد أدركت الدول المتقدمة أيضا أهمية تكوين رأس المال البشري
وهو ما يعرفه قاموس أكسفورد بأنه "المهارات والمعرفة والخبرة التي يمتلكها الفرد
أو السكان، ويُنظر إليها من حيث قيمتها أو تكلفتها بالنسبة لمنظمة أو دولة". وهو رأس مال يضاهي بل يفوق في الاهمية رأس المال النقدي أو ذلك
الناجم عن احتياطيات البلد من المواد الخام.
أطلق البنك الدولي مؤشر رأس المال
البشري (HCI) في عام 2018 لقياس تطور رأس المال البشري حول العالم. ويلاحظ
أن مؤشر HCI الخاص بنا قد انخفض من 0.56 إلى 0.55 خلال العقد الماضي.
الأمر الذي يعني أن إنتاجية الطفل المولود في الأردن اليوم ستكون 55% مما هو ممكن عندما
يكبر. والجدير بالذكر أن ترتيب الأردن أقل من المتوسط في منطقة الشرق الأوسط وشمال
إفريقيا ومجموعة البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى.
بالنتيجة؛ فان العملية
التعليمية في الأردن نجحت وبتفوق في محاربة الأمية وغدت لبضع عقود من الزمن رائدة
في المنطقة من حيث جودة التعليم ونوعية مخرجاته... ولكن هذا تغير كما نعلم ونلاحظ
جميعاً. ولكي تعود رائدة ومن أجل تحسين رأس المال البشري في الأردن، تحتاج الحكومة
إلى الاستثمار بشكل أكبر وبفعالية وكفاءةٍ أعلى لتحسين نتائج التعليم.
No comments:
Post a Comment