تروي آخر أرقام التجارة الحديثة قصة متناقضة متشابكة الصعود والهبوط. ومع ذلك، كما هو الحال في معظم القصص الجيدة، فإن بها رسالة قد لا تكون بائسة تمامًا، وهو ما أستعرضه هنا.
بالمقارنة بين السبعة شهور الماضية بالأشهر السبعة الأولى من عام 2021، فان الصادرات والواردات ازدادت بشكل كبير بالمقارنة بين الفترتين، وهنا يجب على المحلل الحصيف أن يبحث في مصادر النمو، خاصة وأن قيمة الدينار الأردني أخذت بالارتفاع مع ارتفاع الدولار الأمريكي في الآونة الأخيرة مما رفع من أسعار الصادرات مقارنة بمنتجات أولئك الذين يستخدمون عملات أخرى، وجعل الواردات أقل كلفة.
نمت الصادرات الوطنية (باستثناء إعادة التصدير) بنسبة 47 في المائة، من 3.2 مليار دينار أردني في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021 إلى 4.7 مليار دينار أردني في نفس الفترة من عام 2022. (القصة ممتعة وإيجابية حتى الآن، فكل دولة ترغب في زيادة صادراتها...)
فمن
الناحية الأخرى، ارتفعت الواردات بنسبة 39 في المائة، اي بقيمة 8 مليار دينار
أردني خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2021 إلى 11مليار دينار أردني خلال نفس الفترة من عام
2022. وبالنظر إلى أن الواردات تعادل ضعف حجم الصادرات تقريبًا، من المتوقع أن
تؤدي مثل هذه الزيادة في الواردات إلى زيادة العجز التجاري (محسوبًا على أساس
الصادرات ناقص الواردات)، وهو ما حصل، حيث ارتفع
العجز
التجاري بحوالي 34٪ خلال فترة التحليل من4.76 مليار دينار أردني إلى 6.37 مليار دينار
أردني. (لكن القصة لم تكتمل بعد...)
صحيح أن الدول تفاخر بتطور تنوع وقيم صادراتها خاصة حين تتجاوز قيمة وارداتها، مما يعني ازياد قوة عملتها مع ارتفاع الطلب عليها وتحسن ميزان مدفوعاتها وارتفاع نسب التشغيل والأجور فيها لتصبح أكثر قدرة على المنافسة عالميًا. ولكن، لكي تحسن من تنافسيتها فإن القدرة التنافسية لأي دولة تُقاس بصادراتها من المنتجات ذات القيمة المضافة، وليس المواد الخام، مثل النفط والسلع الأساسية الأخرى. يأتي حوالي ثلثي الصادرات الوطنية في الأردن من البوتاس الخام والفوسفات الخام والملابس (تذهب الغالبية العظمى إلى الولايات المتحدة، مع القليل من القيمة المضافة المحلية). إذا أردنا إضافة الصادرات من المنتجات الكيماوية والأسمدة (وكلاهما يعتمد على البوتاس والفوسفات)، عندها يصبح المجموع 84 في المائة من الصادرات الأردنية. ولا بد من التنويه هنا ببعض من التحسن في خليط الصادرات فقد نمت صادرات الأردن من للمواد الكيماوية والأسمدة من 17 في المائة في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021 إلى 22 في المائة في نفس الفترة عام 2022، مما يعني زيادة في القيمة المضافة لصادرات الأردن.
ولكن من ناحية اخرى هنالك انخفاض ملحوظ في الصادرات الدوائية، من 7.4 في المائة إلى 4.4 في المائة خلال فترة المقارنة. هنا يجب على صانعي السياسات التوقف والنظر في معالجة هذا الامر ولعدة أسباب، منها أن صناعة الأدوية هي صناعة ذات قيمة مضافة تصل لمائة بالمئة تقريبا، كما أن الأردن كان رائدًا إقليميًا في مجال صناعة الأدوية، وخرّج سوقه شركة عملاقة مثل شركة الحكمة التي أصبحت شركة عالمية مدرجة في بورصة لندن وتقيم بالمليارات.
دعونا ننتقل الآن إلى مسألة ارتفاع قيمة الدينار، وتأثيره على التجارة الخارجية. صحيح ان الدينار الأردني مرتبط بالدولار الأمريكي منذ بداية عام 1995، لذا، كلما ارتفع الدولار يرتفع الدينار معه أيضا بالنسبة للعملات الأخرى. ومن ثم، كان ينبغي أن تصبح صادرات الأردن أكثر كلفة، وهو ما كان سيعني انخفاضًا في الصادرات وليس زيادة! لم تتأثر صادرات الملابس، حيث تم تسعير البضائع بالدولار وبيعها إلى الولايات المتحدة. أما بالنسبة للفوسفات والبوتاس، فلم ينخفض الطلب على صادراتنا، رغم ارتفاع سعر الصرف، بسبب زيادة الطلب العالمي نتيجة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. (يسرد تحليل الواردات قصة أخرى.)
ارتفعت قيمة واردات الاردن من النفط الخام من 15.5٪ إلى 19.2٪ خلال فترة المقارنة، وذلك نتيجة لصعود أسعار النفط وليس بسبب ارتفاع ملحوظ للنشاط الاقتصادي في الأردن، وازدادت نسبة الواردات من المركبات والآلات من 15.3 في المائة إلى 17.9 في المائة نتيجة ارتفاع أسعارها بسبب تعطل سلاسل التوريد وانطلاق التضخم العالمي، ومع انخفاض الأسعار العالمية مؤخرا وتصاعد قوة الدولار، من المرجح أن ترتفع كمية الواردات مع انكماش كلفتها.
وفي خضم تنامي كل هذا الشراء، زاد الأردنيون وارداتهم من المجوهرات والمعادن النفيسة من 406 مليون دينار (5٪) إلى 982 مليون دينار أردني (9٪ من الواردات)، وهو ما قد يعني زيادة اكتناز الأردنيين للذهب كمخزن للقيمة وهو ما قد يكون دليل على ارتفاع وتيرة التحوط والاحساس بعدم الثقة، وهو خلل هام لا يمكن معالجته إلا من خلال تصرفات ونهج حوكمة يدعو الى المزيد من الثقة بالحكومة، وبالتالي الايمان بأمن وأمان البلد.
يمكن للمرء أن يتعلم الكثير عن الاقتصاد الأردني من خلال بيان صحفي صادر عن دائرة الإحصاءات العامة لا يتعدى صفحتين حول التجارة الخارجية. الأهم من ذلك، أن بعض القطاعات التي أكدت عليها رؤية التحديث الاقتصادي كمحركات للنمو، مثل الأدوية، تعاني بالفعل من منافسة غير عادلة في الخارج، وبعض التحديات في الداخل (احدها المدفوعات الحكومية المتأخرة لشركات الأدوية والتي فاقت 100 مليون دينار).
يمكن تحقيق النمو بسهولة، وهو ما حصل مرات عديدة في السابق نتيجة لتغيرات المنطقة، لكن الطريق إلى التنافسية والتنمية شاق ويتطلب المضي قدمًا وبضع عقود من العمل الدؤوب نحو هدف. كما لا يتطلب التركيز على بضع قطاعات، فهذه موضة قديمة (حسب الأدبيات الاقتصادية)، بل يجب إشراك جميع القطاعات في التوجه نحو مهمة تحقيق التنمية.
No comments:
Post a Comment