إن ثنائية السياسة الاقتصادية منذ عقد من الزمان والمتمثلة في الاقتراض للوفاء بالالتزامات المالية الناجمة عن النفقات الجارية والتضحية بالإنفاق الرأسمالي سياسة فاشلة. لماذا؟ لأنها لم ولن تؤدي إلى نمو اقتصادي. ومن ثم، سيأتي المستقبل بالمزيد من التراجع في الأداء. من الواضح أن هناك حاجة إلى تحول في النموذج الاقتصادي المتبع. يوفر النموذج التالي (الأفكار المعروضة هنا مستوحاة من كتابات العديد من الاقتصاديين البارزين، ولا سيما ماريانا مازوكاتو) طريقة عمل بديلة.
أولاً وقبل كل شيء، يجب على المشرفين على الاقتصاد
أن يفهموا تمامًا بل وأن يؤمنوا بأن الاقتصاد نظام معقد يحرك إطاره وتكوينه
واتجاهه التغيير المستمر والتطورات والتغذية المرتدة الديناميكية. وأن كل تغيير مهما
كان صغير قد يؤدي إلى العديد من التداعيات وردود الفعل والتغييرات التي هي
بطبيعتها معقدة وديناميكية.
بمجرد أن يبدأ الإيمان بهذه الفكرة ويترسخ، لا يمكن
أن تكون القرارات التي تؤثر على الاقتصاد قرارات سهلة وسريعة وأحادية الاتجاه، أو أن
تخرج من كل جهة وكأنها مستقلة عن نمطية أن الاقتصاد مترابط فيكون جل اهتمام المسؤول
عمل ومصالح وزارته أو قطاعه متناسيا التبعات الخارجية والممتدة للقرار، أو أن تكون
القرارات غير مدروسة وهناك العديد من الأمثلة على ذلك. بدلاً من ذلك، يجب أن يقود القائمون على الاقتصاد عملية الابتكار والنمو ،
وأن تمكن قراراتهم تحولات مفيدة وإيجابية على مستوى المجتمع ككل.
ثانيًا، يجب على صانعي السياسات تجاهل المصطلحات والأدوات
التحليلية البالية كالميزة المطلقة (لدي موارد لإنتاج سلعة أكثر من الآخر ، لذلك
سأنتجها واتخصص فيها فقط، والميزة النسبية (كلفة الفرصة لدي أقل نسبيًا من الآخر،
لذلك سأنتج واتخصص في هذا المنتج)، وتحليل التكلفة والعائد وهي أداة ساذجة جدًا (تكلف
شبكة السكك الحديدية للركاب والبضائع أكثر مما ستدره من الإيرادات المباشرة ، لذلك
فلننسى هذا المشروع). أشارت ماريانا مازوكاتو مؤخرًا: لو اعتمدت كوريا الجنوبية
على ميزتها المطلقة لتخصصت في إنتاج الأرز بدلاً من أن تصبح الدولة الأكثر
ابتكارًا في العالم خلال السنوات الست الماضية.
بدلاً من ذلك، يجب أن نفكر من خلال إطار الميزة التنافسية
(إرادة الأمة ودوافعها، وبغض النظر عن قيود الموارد الحالية، تُمكّنها من أن تصبح
قادرة على المنافسة في المستقبل وأن تنتج منتجا ما رغم شح الموارد). وحتى الميزة
التنافسية لن تنجح إذا لم تقترن بل وترتكز على رؤية تدعم الابتكار وزيادة تعقيد (المحتوى
المعرفي) وحذاقة المنتج.
ثالثًا، يجب على صانعي السياسة إيلاء اهتمام أقل للدعوات
الليبرالية بأن تكون الحكومة مجرد مراقب خارج السوق. يجب عليهم التركيز بدلاً من
ذلك على جعل القطاع العام أكثر فعّالية في قيادة التغيير. قد تبدو هذه التوصية
لأول وهلة شيئا مستهجن، ولكن المتصفح لتاريخ التنمية في العالم سيجد أن التنمية اعتمدت
الحكومة شريكا أساسيا وقائدا للتغيير. فالحكومة هي المستثمر الأول (وليس مستثمر
الملاذ الأخير) الذي يخلق مساحة للقطاع الخاص للتقدم من خلال الابتكارات
والاختراعات؛ وهو المروّج للتغييرات الإيجابية التي تؤدي إلى نتائج مفيدة ومحتوى
معرفي أكبر في المنتجات. بعبارة أخرى، يجب إعادة صياغة دور الحكومة ليكون أكثر
شبهاً بدور حكومات الاقتصادات التي تحركها الرؤى الثابتة والمدعّمة بموارد القطاع
العام مثل كوريا الجنوبية وألمانيا وفنلندا وسويسرا، وهي الاقتصادات الأربعة
الأكثر ابتكارا في العالم. فتحديد الاتجاه يعد أمرًا حيويًا للاقتصادات التي ترغب
في المضي قدمًا.
رابعًا، إعطاء الأولوية للنفقات الرأسمالية (بدلاً من التضحية بها) في الموازنة لتحديد اتجاه التغيير اللازم، واستخدام جميع الأدوات المتاحة للحكومة لدفع الاقتصاد من خلال زيادة الإنتاجية والابتكار والبحث والتطوير والقيمة المضافة وبالتالي المرونة الاقتصادية ليس للشعب فقط بل وللحكومة أيضا. نعم، موازنة الحكومة الحالية ومنذ عقود مقيدة بالتزامات النفقات الجارية مثل الرواتب والمعاشات وخدمة الديون. إذا لم تحدث صدمة خارجية إيجابية، فستستمر هذه النفقات في النمو بشكل أسرع من الناتج المحلي الإجمالي في ظل الفكر والتوجه القائم. فما هو الحل؟ الاقتراض وتحمّل المزيد من الديون لزيادة المحتوى المعرفي في المنتج كمهمة حكومية أساسية واستخدم جميع الأدوات المالية والنقدية لدفع التغيير وإحداثه. ولنستخدم خططًا تحث على التغيير تختلف من مساق لآخر فالاقتصاد معقد ولا يوجد حل واحد مناسب للجميع. ولأصحاب القرار نقول، لا تختاروا رابحين وخاسرين، بدلاً من ذلك، اختاروا اتجاهات التغيير واستخدموا القوة الكاملة للأدوات الحكومية لإنشاء مشاريع تحث على الحلول بمشاركة الجهات المختلفة الراغبة.
فلنبدأ التغيير وبرؤية متطورة!