يتحكم، وربما لأول مرة في
تاريخنا، القرار الصحي بالقرار الاقتصادي وكافة مناحيه. وهنا تكمن الصعوبة بالنسبة
للفكر الاقتصادي التقليدي، فكيفية العودة بالاقتصاد الى الخروج من الحجر ومنع
التجوال وتقييد الحركة سيعتمد بشكل كبير على القرار الصحي، ومتطلباته، فيجد
الاقتصاديون أنفسهم أمام ظاهرة غريبة، وكأنهم أمام ما اسماه نسيم طالب ب
"البجعة السوداء"، وهو ما يحدث حين تواجه ظاهرة تختلف تماما عن ما
اعتدته، فتجد أن الادوات القديمة وتوصياتها أقل أهمية وكفاءة في التعامل مع
الظاهرة مما يستوجب حلولا وانماطا جديدة.
ومن هذا المنطلق، أصف هنا مرتكزات
أعتقد أن من اللازم اتخاذها من أجل العودة بالاقتصاد، ليس لما كان عليه، ولكن على
الأقل الى وضع يقارب ما كان عليه قبل جائحة الكورونا.
1.
ايجاد ما يسمى بالارقام الحقيقية Real
Time للاصابات
وليس ما هو مشاهدمن اصابات Observed
Time فقط، وذلك
اسوة بما فعلته سنغافورة وجنوب كوريا والصين. ويقوم بتحديد هذا علماء الامراض
والاطباء والاحصاء والاقتصاد والسلوك البشري وشركات الاتصالات وشبكات التواصل
الاجتماعي فيضعوا قاعدة بيانات حقيقية تبين الارقام الحقيقية وليس ما ظهر منها فقط.
ويتم نشر هذه الارقام لكل منطقة على حدة مع الأخذ بخصوصياتها الديموغرافية
والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، أو ما يسمى Localization، وهو أمر
هام في اتخاذ الاجراءات الوقائية لاحقا.
2.
إجراء فحص الدم لأكبر عدد ممكن من الناس لمعرفة مستوى
المناعة لديهم، واذا ما كانوا قد اصيبوا بالمرض، وإمكانية اصابتهم بالمرض اذا
تعرضوا له من قبل ناقل أو حامل للمرض. وهو اجراء طبي غير مكلف وينصح به العديدون
من خبراء الأوبئة في العالم.
3.
التأكد من جاهزية الجهاز الطبي ومؤسساته من حيث عدد الأسرة
وغرف العناية الحثيثة وأجهزة التنفس الاصطناعي، ويمكن حساب ذلك والسعي لتجهيزه،
واستيراد ما هو غير متوفر من الصين مثلا. كما يمكن طباعة أجهزة تنفس من خلال
الطباعة ثلاثية الأبعاد.
4.
الإعلان أن في حال وصول عدد حالات المرض الى عدد معين،
سيتم فتح الاقتصاد والعودة للعمل ولكن بشروط تضمن التباعد الجسدي بين الناس،
فالمرض لن يختفي حتى يكتشف اللقا؛ وهو أمر قد يستغرق شهور أو أكثر. الهدف من
الاعلان هو اعطاء ساكني الأردن هدفا وبصيص أمل أو ضوء في نهاية النفق، مما يساعد
على الامتثال، خاصة وإن طالت فترات الحجر. كما يعلن في ذات السياق أنه إذا وصل عدد
الحالات الى مستوى معين سيعود قرار الحجر والاغلاق. ويفيد هذا أيضا في تحفيز أنماط
التصرف البشري نحو الوقاية الذاتية.
5.
يتم الفتح للاقتصاد ليس بالضرورة من خلال فتح القطاع حسب
الأهمية بل من خلال التأكيد على القدرة على تحمل عودة الانتشار، من تركيبة من ما
يلي:
·
توفر العمالة ذات المناعة العالية للعمل في المصنع أو
المصلحة التجارية
·
التعقيم والتباعد الجسدي في مكان العمل ووجود امكانية
الحجر السريع في المرافق
·
خصوصية المنطقة التي يتم فيها الانتاج وصفاتها
الديموغرافية ومدى التزاحم البشري فيها وأعمار السكان وتوفر الحجر الصحي السريع
·
خصوصية المنشأة وعمليات التصنيع في المنشأة من حيث
المساحات وتباعد الآليات، فلى سبيل المثال: إن كان مطعم فيجب أن يكون فيه تباعد بين
الطاولات وغيره.
·
التعرف على سلاسل العرض (الانتاج) المحددة للمنشآت، فمن
غير المنطق ان يسمح بفتح منشأة من قبل المشرّع دون أن يتوفر لديها قنوات لاستقبال
المدخلات أو بيع المنتجات، ويراعى فيها النقل والتخزين وغيره مما يؤثر في سلاسل
العرض. أيضا، يجب الوقوف على سلسلة الانتاج داخل المصنع فلا تتوقف آلية دون أخرى
فتتعطل كافة عملية الانتاج، مما يجعل قرار الفتح بلا أي فائدة واقعية.
·
أن يحاول المشرع تفادي القرارات التي ترفع من كلفة
الانتاج بأي شكل من الأشكال، وخاصة للمؤسسات الصغيرة، فالاقتصاد قبل الكورونا كان
يعاني من ارتفاع اسعار الطاقة والفوائد على الاقتراض وارتفاع الضرائب غير المباشرة
وتعددها والبيروقراطية وضعف السوق المحلي مع انخفاض القدرة الشرائية وركود اقتصادي
قبع بين ظهرانيه لعشر سنوات ولا يزال مستمر.
6.
وضع الرسائل التوجيهية والتوعوية في أماكن العمل
والاستهلاك لاستمرار وتشجيع الاحساس بالمسؤلية الفردية نحو الذات والمجموعة
وبالتالي تقوية الحافز لدى الفرد في الساتمرار بأنماط التباعد الجسدي عن الآخرين.
7.
توفير السيولة من مصادر التمويل الرسمية خلال الاغلاق،
وحين بداية العودة للانتاج لفترة لا تقل عن ثلاثة شهور تقريبا، وخاصة لتلك المنشآت
الصغيرة التي لا تتوفر لديها السيولة عادة.
8.
بما أن الجائحة (وباء معدي Epidemic عابر للدول)
تعتبر ظرف قاهر Force
Majeure حسب ادبيات
وعقود المؤسسات الدولية، فيجب ايقاف أي دفعات للحكومة والبلديات (ضرائب مسقفات
ورسوم بلدية وخلافه) ورسوم التسجيل لمن لم يعمل خلال فترة المنع، أو ما يسمى ب
"ايقاف الساعة" وتأجيل وتقسيط الكلف المتحققة لاحقا دون غرامات تأخير
ولفترات مريحة تمكن المؤسسات من التعافي. فالمشرع الذي يعتقد بأن المؤسسات في
القطاع الخاص ستعود للعمل مباشرة وكأن شيئا لم يكن ربما لم يعمل أبدا في القطاع
الخاص ويتعرف على محدداته من تراكم الفواتير والدفعات بعد حالة إغلاق طويلة الأمد.
9.
تفادي الإجراءات التي تحد من دخل المواطن والمؤسسات بأي
شكل، لأنها ستقلل من الدخل المتاح للمواطن، وتضر بالطلب الكلي، فتؤدي الى تراجع
الاقتصاد أكثر وإدخاله في دوامة غير حميدة تعمق من الآثار السالبة. وهنا يأتي دور
الحكومة سواء من خلال الدعم أو السماح، فجائرة الكورونا خلقت دورة اقتصادية خاصة
بها، قد تطول أو تقصر، وقد تعود ولاسباب لا علاقة لها بالاقتصاد ودورته المعتادة.
10.
دخلت مؤسسات الاقتصاد الاردني (الحكومية والخاصة) في
الجائحة بعد عشر سنوات من ركود اقتصادي حاد وطويل الأمد (دخل المواطن الحقيقي أقل
مما كان عليه في عام 1987)، ولا يوجد كما هو معروف لدى السياسة المالية مجال واسع
للمناورة كما في الدول النفطية أو تلك الصناعية التي يقوم اقتصادها على الانتاج
والانتاجية أو تلك التي تملك صناديق سيادية استثمارة تستطيع اللجوء اليها. فمع حجم
عجز الموازنة قبل الجائحة، والعجز الاضافي الناجم عن الحجر، وذلك المتحقق بعده
نتيجة تباطؤ العودة للتعافي الاقتصادي التام، فإن دور السياسة النقدية يجب أن يكون
رئيسي ونشط في توفير السيولة بأقل التكاليف وبمتطلبات أقل مما هو معهود. وربما على
السياسة المالية أن تتجه للمقرضين الدوليين والمانحين كالصندوق والبنك الدوليين
والصين وأمريكا وغيرها من شركاء الاردن التنمويين وطلب فترة سماح وقروض اضافية
لتقوية العرض والطلب معا وليس اللجوء الى سياسة تقشف، وهو ما يتفق باعتقادي مع
تفكير إدارة السياسة المالية الحالية والتي تحيط بجميع جوانب الاقتصاد وليس دخل
ونفقات الحكومة قصيرة الأجل، وباتجاه يعاكس الدورة الاقتصادية فتقاوم الانخفاض في
النشاط الاقتصادي بالانفاق، وهو ما ثبت نجاعته عالميا.
قد يكون هناك العديد من الفرص الايجابية الناجمة عن
الجائحة، خاصة مع الخروج السريع من تبعاتها الاقتصادية، وعلى الادارات الحصيفة أن
تجعل منها فرصا للابتكار واستثمارات مستدامة، وهذا يستحق حوار آخر، خاصة وأن
الجائحة جعلت منا شركاء حقيقيين الآن.
د. يوسف منصور