Wednesday, October 28, 2020

اقتصاديات البلطجة وغيرها 28 10 2020

قام الامن مشكورا قبل أيام بالقبض على عدد من فارضي الاتاوات من البلطجية بعد الجريمة النكراء التي هزت الشارع الاردني. تذكرني هذه الجرائم وغيرها ببحث اقتصادي هام نشر عام 1968 حول مسببات ارتكاب الجريمة لغاري بيكر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد يذكر فيه الشروط  التي تحفز من الناحية الاقتصادية (وليس السيكولوجية وبافتراض أن مرتكب الجريمة شخص عقلاني)، اذكرها ادناه لفائدتها في درء وتقليل وقوع الجرائم بأنواعها وهي:

1-  سهولة ارتكاب الجريمة: كلما كان ارتكاب الجريمة سهلاً ولا يحتاج الى أدوات  وموارد حذقة أو ماهرة يصعب الوصول اليها تزداد امكانية ارتكاب الجريمة، ولدينا الكثير من الامثلة الشعبية التي تقول بمثل هذا، "المال السائب يعلم الحرامي على السرقة"، و"الحيط الواطي بعلم الحرامي على السرقة". لذا نجد ان الجريمة تنتشر في المناطق والمواقع التي تضعف فيها الرقابة او يسهل فيها الوصول الى الضحية.

2-  احتمالية القبض على مرتكب الجريمة: وتعني بصراحة "من أمن العقاب أساء الادب"، و" المصيبة ليس في ظلم الأشرار بل في صمت الاخيار"، فحين يعتقد اللص او الفاسد او البلطجي بضعف أو تدني امكانية اكتشاف الجريمة ومحاسبته عليها يكون حافزه أكبر لارتكابها.

3-  حجم الغنيمة: وتعني انه كلما كبرت المنفعة المتوقعة من ارتكاب الجريمة يكون لدى الجاني حافز اكبر على ارتكابها، "اذا أردت أن تسرق فاسرق جمل". وهنا يكون حجم المنفعة بالنسبة لدخل أو ثراء الجاني.

4-  شدة وقسوة العقاب في حال القبض على الجاني: مما يعني انه في حال القاء القبض على المجرم يجب ان يكون العقاب رادعاً ومانعاً للشخص وغيره من ارتكاب مثل هذه الجريمة، اي بما معناه " إذا تساهل شعب مشى إليه الشتات، للناس في العفو موت، وفي القصاص حياة".

اي ان الشخص، اذا كان عقلانيا (وقد لا يكون عقلانيا)، سيوازن بين هذه العناصر الاربعة قبل ارتكاب اي جريمة، لذا تقوم المجتمعات المتقدمة بتطبيق القانون على الجميع كما تجعل من ارتكاب الجريمة امرا غير سهل، وتغلظ العقوبات على مرتكبيها، وتحارب الفقر ومشاكله، وتمكن مجتمعاتها من التدريب والتعلم وتقدم لها فرص التشغيل والتوظيف لتقلل من حجم الغنيمة بالنسبة للدخل. لاحظ ان بحث البروفيسور بيكر لم يتكلم عن الاخلاق او الوازع الديني او الثقافي او الاسري، بل انه قدم نظريةً اقتصادية (التكلفة والمنفعة) بحتة في تحليل الجريمة.

من الممارسات الفضلى كان ما قام به لي كوان يو في سنغافورة من تغليظ للعقوبات وتشديد ممن المراقبة وتطبيق القانون بالمساواة على جميع السكان في سنغافورة مما جعلها بلداً نظيفاً وأمناً، كما نجد في ممارسة رودي جولياني حين شغل منصب محافظ مدينة نيويورك والتي كانت مرتعا للجريمة آنذاك فنظفها خلال بضع أعوام حين زاد من احتمالية القبض حتى على مرتكبي الجرائم الصغيرة كالرسم على الحائط وتشويه الاماكن العامة وعدم دفع ثمن تذكرة المترو النفقي وغلظ العقوبات عليها لجعلها مثالاً لما يمكن ان يحدث لمرتكبي الجرائم الكبيرة. وكلا المثالين دلائل على تطبيق الجهات المنظمة والرقابية في المجتمع لما اشار اليه "غاري بيكر". ويجب أن نتذكر مقولة مصطفى صدقي الرفاعي، "  وآفة هذه القوانين أنها لم تُسن لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها ".

طبعا، محاربة الجريمة يجب أن تكون عملية مستدامة ومستمرة...وللحديث ما له من معاني أتركها للقارئ يستنبطها حسبما يرى.  

No comments:

Post a Comment